فصل: الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.[جَرُّ الْوَلَاءِ حكم]:

وَمِنْ مَسَائِلِهِمُ الْمَشْهُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَسْأَلَةُ التِي تُعْرَفُ بِجَرِّ الْوَلَاءِ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَكُونَ عَبْدٌ لَهُ بَنُونَ مِنْ أَمَةٍ، فَأُعْتِقَتِ الْأَمَةُ ثُمَّ أُعْتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا لِمَنْ يَكُونُ وَلَاءُ الْبَنِينَ إِذَا أُعْتِقَ الْأَبُ؟
وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ وَلَاءَهُمْ بَعْدَ عِتْقِ الْأُمِّ إِذَا لَمْ يَمَسَّ الْمَوْلُودَ الرِّقُّ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ إِذَا تَزَوَّجَهَا الْعَبْدُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَقَبْلَ عِتْقِ الْأَبِ هُوَ لِمَوَالِي الْأُمِّ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا أُعْتِقَ الْأَبُ هَلْ يَجُرُّ وَلَاءَ بَنِيهِ لِمَوَالِيهِ أَمْ لَا يَجُرُّ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُرُّ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالزُّبَيْرُ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ شِهَابٍ وَجَمَاعَةٌ: لَا يَجُرُّ وَلَاءَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَقَضَى بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِمَا حَدَّثَهُ بِهِ قَبِيصَةُ بْنِ ذُؤَيْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَلَاءَ مُشَبَّهٌ بِالنَّسَبِ، وَالنَّسَبُ لِلْأَبِ دُونَ الْأُمِّ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ الْبَنِينَ لَمَّا كَانُوا فِي الْحُرِّيَّةِ تَابِعِينَ لِأُمِّهِمْ كَانُوا فِي مُوجِبِ الْحُرِّيَّةِ تَابِعِينَ لَهَا، وَهُوَ الْوَلَاءُ. وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يَجُرُّ وَلَاءَ حَفَدَتِهِ إِذَا كَانَ أَبُوهُمْ عَبْدًا، إِلَّا أَنْ يُعْتَقَ الْأَبُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ وَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَلَاءَ الْجَدِّ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِمُعْتِقِ الْجَدِّ عَلَى الْبَنِينَ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ وَلَاءٌ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ لِلْجَدِّ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ عُبُودِيَّةَ الْأَبِ هِيَ كَمَوْتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْوَلَاءُ إِلَى أَبِي الْأَبِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْعَصَبَةِ فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّ الْأَبْنَاءَ أَحَقُّ مِنَ الْآبَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْعَمُودِ الْأَعْلَى إِلَّا إِذَا فَقَدَ الْعَمُودَ الْأَسْفَلَ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ عِنْدَهُمْ أَقْوَى تَعْصِيبًا مِنَ الْأُبُوَّةِ، وَالْأَبُ أَضْعَفُ تَعْصِيبًا، وَالْإِخْوَةُ وَبَنُوهُمْ أَقْعَدُ عِنْدَ مَالِكٍ مِنَ الْجَدِّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ الْجَدُّ أَقْعَدُ مِنْهُمْ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ مَنْ أَقْرَبُ نَسَبًا وَأَقْوَى تَعْصِيبًا وَلَيْسَ يُورَثُ بِالْوَلَاءِ جُزْءٌ مَفْرُوضٌ وَإِنَّمَا يُورَثُ تَعْصِيبًا، فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ أَصْلًا، أَوْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ لَا يُحِيطُونَ بِالْمِيرَاثِ كَانَ عَاصِبُهُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى، وَكَذَلِكَ يُعَصِّبُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى كُلَّ مَنْ لِلْمَوْلَى الْأَعْلَى عَلَيْهِ وِلَادَةُ نَسَبٍ (أَعْنِي: بَنَاتِهِ وَبَنِيهِ وَبَنِي بَنِيهِ).

.[مَنْ مَاتَتْ وَلَهَا وَلَاءٌ وَوَلَدٌ وَعَصَبَةٌ لِمَنْ يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ؟

]:
وَفِي هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ وَهِيَ: إِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ وَلَهَا وَلَاءٌ وَوَلَدٌ وَعَصَبَةٌ لِمَنْ يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ؟
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لِعَصَبَتِهَا لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهَا، وَالْوَلَاءُ لِلْعَصَبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: لِابْنِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِأَهْلِ هَذَا السَّلَفِ، لِأَنَّ ابْنَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ مِنْ عَصَبَتِهَا. تَمَّ كِتَابُ الْفَرَائِضِ وَالْوَلَاءِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَقَّ حَمْدِهِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

.كِتَابُ الْعِتْقِ:

وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِيمَنْ يَصِحُّ عِتْقُهُ وَمَنْ لَا يَصِحُّ، وَمَنْ يَلْزَمُهُ وَمَنْ لَا يَلْزَمُهُ (أَعْنِي: بِالشَّرْعِ)، وَفِي أَلْفَاظِ الْعِتْقِ، وَفِي الْإِيمَانِ بِهِ، وَفِي أَحْكَامِهِ وَفِي الشُّرُوطِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ. وَنَحْنُ فَإِنَّمَا نَذْكُرُ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ أَكْثَرُهَا بِالْمَسْمُوعِ.

.مَنِ الَّذِي يَصِحُّ عِتْقُهُ:

فَأَمَّا مَنْ يَصِحُّ عِتْقُهُ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ عِتْقُ الْمَالِكِ التَّامِّ الْمُلْكِ الصَّحِيحِ الرَّشِيدِ الْقَوِيِّ الْجِسْمِ الْغَنِيِّ غَيْرِ الْعَدِيمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِتْقِ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ وَفِي عِتْقِ الْمَرِيضِ وَحُكْمِهِ. فَأَمَّا مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ عِتْقِهِ، فَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ، وَقَالَ فُقَهَاءُ الْعِرَاقِ: وَذَلِكَ جَائِزٌ حَتَّى يَحْجُرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرَى التَّحْجِيرَ مِنْهُمْ، وَقَدْ يَتَخَرَّجُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْجَوَازُ قِيَاسًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الرَّهْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِ الرَّاهِنِ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ. وَعُمْدَةُ مَنْ مَنَعَ عِتْقَهُ أَنَّ مَالَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مُسْتَحَقٌّ لِلْغُرَمَاءِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهِيَ الْعِلَّةُ الَّتِي بِهَا يَحْجُرُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفَ وَالْأَحْكَامُ يَجِبُ أَنْ تُوجَدَ مَعَ وُجُودِ عِلَلِهَا، وَتَحْجِيرُ الْحَاكِمِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ وَاجِبٌ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِلَّةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِوُقُوعِهِ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّهُ قَدِ انْعَقَدَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ وَيُحْبِلَهَا وَلَا يَرُدَّ شَيْئًا مِمَّا أَنْفَقَهُ مِنْ مَالِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ حَتَّى يَضْرِبَ الْحَاكِمُ عَلَى يَدَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ تَصَرُّفَاتِهِ هَذَا الْحُكْمَ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا خِلَافَ عِنْدِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ غَيْرُ الْمُحْتَلِمِ مَا لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةً مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمَحْجُورُ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عِتْقُهُ لِشَيْءٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ إِلَّا مَالِكًا وَأَكْثَرَ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا عِتْقَهُ لِأُمِّ وَلَدِهِ.
وَأَمَّا الْمَرِيضُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ عِتْقَهُ إِنْ صَحَّ وَقَعَ وَإِنْ مَاتَ كَانَ مِنَ الثُّلُثِ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هُوَ مِثْلُ عِتْقِ الصَّحِيحِ. وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ، الْحَدِيثُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

.مَنِ الَّذِي يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ:

وَأَمَّا مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الْعِتْقُ كَرْهًا فَهُمْ ثَلَاثَةٌ:
مَنْ بَعَّضَ الْعِتْقَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ قِسْمَيْهِ، وَاثْنَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا وَهُمَا:
مَنْ مَلَكَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ.
وَمَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ.
فَأَمَّا مَنْ بَعَّضَ الْعِتْقَ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ وَقَعَ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا الْجُزْءُ الْمُعْتَقُ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ يَمْلِكُ الْعَبْدَ كُلَّهُ وَلَكِنْ بَعَّضَ عِتْقَهُ اخْتِيَارًا مِنْهُ. فَأَمَّا الْعَبْدُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يُعْتِقُ أَحَدُهُمَا حَظَّهُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ ذَلِكَ. فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ، فَدَفَعَ ذَلِكَ إِلَى شَرِيكِهِ وَعَتَقَ الْكُلَّ عَلَيْهِ وَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَبَقِيَ الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ عَبْدًا وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْعَبْدِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ لِلسَّيِّدِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ حَظَّهُ مِنْهُ وَهُوَ حُرٌّ يَوْمَ أَعْتَقَ حَظَّهُ مِنْهُ الْأَوَّلُ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَجَمَاعَةُ الْكُوفِيِّينَ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ، وَابْنَ أَبِي لَيْلَى جَعَلَا لِلْعَبْدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعْتِقِ بِمَا سَعَى فِيهِ مَتَى أَيْسَرَ.
وَأَمَّا شَرِيكُ الْمُعْتِقِ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي أَنْ يُعْتِقَ أَوْ يُقَوِّمَ نَصِيبَهُ عَلَى الْمُعْتِقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِشَرِيكِ الْمُوسِرِ ثَلَاثُ خِيَارَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْتِقَ كَمَا أَعْتَقَ شَرِيكُهُ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَهُمْ. وَالْخِيَارُ الثَّانِي: أَنْ تُقَوَّمَ عَلَيْهِ حِصَّتُهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُكَلَّفَ الْعَبْدُ السَّعْيَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا وَلِلسَّيِّدِ الْمُعْتِقِ عَبْدَهُ عِنْدَهُ إِذَا قَوَّمَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ نَصِيبَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْعَى فِيهِ وَيَكُونَ الْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَدْلِ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدَ، وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ». وَعُمْدَةُ مُحَمَّدٍ، وَأَبِي يُوسُفَ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدِهِ فَخَلَاصُهُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ». وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ خَرَّجَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ قَوْلٌ فِي تَرْجِيحِ حَدِيثِهِ الَّذِي أَخَذَ بِهِ. فَمِمَّا وَهَّنَتْ فِيهِ الْكُوفِيَّةُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ شَكَّ فِي الزِّيَادَةِ الْمُعَارِضَةِ فِيهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ»، فَهَلْ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَمْ مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ، وَإِنَّ فِي أَلْفَاظِهِ أَيْضًا بَيْنَ رُوَاتِهِ اضْطِرَابًا. وَمِمَّا وَهَّنَ بِهِ الْمَالِكِيُّونَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ قَتَادَةَ فِيهِ عَلَى قَتَادَةَ فِي ذِكْرِ السِّعَايَةِ.
وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى فَاعْتَمَدَتِ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا لَزِمَ السَّيِّدَ التَّقْوِيمُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لِلضَّرَرِ الَّذِي أَدْخَلَهُ عَلَى شَرِيكِهِ وَالْعَبْدُ لَمْ يُدْخِلْ ضَرَرًا فَلَيْسَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَعُمْدَةُ الْكُوفِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَقٌّ شَرْعِيٌّ لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُهُ، فَإِذَا كَانَ الشَّرِيكُ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا عَتَقَ الْكُلَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ وَفِيهِ مَعَ هَذَا رَفْعُ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَى الشَّرِيكِ وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْعَبْدِ، وَرُبَّمَا أَتَوْا بِقِيَاسٍ شَبَهِيٍّ، وَقَالُوا: لَمَّا كَانَ الْعِتْقُ يُوجَدُ مِنْهُ فِي الشَّرْعِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَقَعُ بِالِاخْتِيَارِ، (وَهُوَ إِعْتَاقُ السَّيِّدِ عَبْدَهُ ابْتِغَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ). وَنَوْعٌ يَقَعُ بِغَيْرِ اخْتِبَارٍ، (وَهُوَ أَنْ يَعْتِقَ عَلَى السَّيِّدِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ بِالشَّرِيعَةِ مِلْكُهُ)، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ بِالسَّعْيِ كَذَلِكَ. فَالَّذِي بِالِاخْتِيَارِ مِنْهُ هُوَ الْكِتَابَةُ. وَالَّذِي هُوَ دَاخِلٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ هُوَ السَّعْيُ. وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا هَلْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالْحُكْمِ أَوْ بِالسِّرَايَةِ؟
(أَعْنِي: أَنَّهُ يَسْرِي وُجُوبُ عِتْقِهِ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْعِتْقِ)، فَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: يَعْتِقُ بِالسَّرَايَةِ، وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: بِالْحُكْمِ. وَاحْتَجَّتِ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا بِالسَّرَايَةِ لَسَرَى مَعَ الْعَدَمِ وَالْيُسْرِ. وَاحْتَجَّتِ الشَّافِعِيَّةُ بِاللَّازِمِ عَنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ»، فَقَالُوا: مَا يَجِبُ تَقْوِيمُهُ فَإِنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ إِتْلَافِهِ فَإِذَنْ بِنَفْسِ الْعِتْقِ أَتْلَفَ حَظَّ صَاحِبِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ تَقْوِيمُهُ فِي وَقْتِ الْإِتْلَافِ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ حَاكِمٌ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يُعْتِقَ نَصِيبَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ نَفَذَ الْعِتْقُ وَهَذَا بَيِّنٌ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهَا خِلَافٌ شَاذٌّ، فَقِيلَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: إِنَّهُ جَعَلَ حِصَّةَ الشَّرِيكِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَقِيلَ عَنْ رَبِيعَةَ فِيمَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي عَبْدٍ: أَنَّ الْعِتْقَ بَاطِلٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُقَوَّمُ عَلَى الْمُعْسِرِ الْكُلُّ، وَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِيمَا أَعْتَقَ. وَقَالَ قَوْمٌ بِوُجُوبِ التَّقْوِيمِ عَلَى الْمُعْتِقِ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا وَيَتْبَعُهُ شَرِيكُهُ، وَسَقَطَ الْعُسْرُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ الْأَحَادِيثِ، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الْأَحَادِيثُ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ مِنْ هَذَا فِي فَرْعٍ وَهُوَ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا فَأُخِّرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِإِسْقَاطِ التَّقْوِيمِ حَتَّى أَيْسَرَ، فَقِيلَ: يُقَوَّمُ، وَقِيلَ: لَا يُقَوَّمُ. وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِهَذِهِ الْآثَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ بِاخْتِيَارِهِ شِقْصًا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ عَبْدٍ: أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ الْبَاقِي إِنْ كَانَ مُوسِرًا إِلَّا إِذَا مَلَكَهُ بِوَجْهٍ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِمِيرَاثٍ، فَقَالَ قَوْمٌ: يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْيُسْرِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: فِي حَالِ الْيُسْرِ بِالسِّعَايَةِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا. وَإِذَا مَلَكَ السَّيِّدُ جَمِيعَ الْعَبْدِ فَأَعْتَقَ بَعْضَهَ، فَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُونَ: يُعْتَقُ عَلَيْهِ كُلُّهُ، وَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: يُعْتَقُ مِنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ الَّذِي عُتِقَ وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي الْبَاقِي، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَحَمَّادٍ. وَعُمْدَةُ اسْتِدْلَالِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ فِي إِعْتَاقِ نَصِيبِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ لِحُرْمَةِ الْعِتْقِ كَانَ أَحْرَى أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ. وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِتْقِ عَلَى الْمُبَعِّضِ لِلْعِتْقِ هُوَ الضَّرَرُ الدَّاخِلُ عَلَى شَرِيكِهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِلْكًا لَهُ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ ضَرَرٌ. فَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هَلْ عِلَّةُ هَذَا الْحُكْمِ حُرْمَةُ الْعِتْقِ، (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِيهِ تَبْعِيضٌ)، أَوْ مَضَرَّةُ الشَّرِيكِ؟
وَاحْتَجَّتِ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِتْقَهُ. وَمِنْ عُمْدَةِ الْجُمْهُورِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيه: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ فَتَمَّمَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِتْقَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ»، وَعَلَى هَذَا فَقَدَ نَصَّ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْجُمْهُورُ، وَصَارَتْ عِلَّتُهُمْ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا أَوْلَى مِنَ الْمُسْتَنْبَطَةِ. فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ وَتَعَارُضُ الْقِيَاسِ.
وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ الَّذِي يَكُونُ بِالْمُثْلَةِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ: مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ أَعْتَقَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُعْتِقُ عَلَيْهِ، وَشَذَّ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ: مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِ غَيْرِهِ أَعْتَقَ عَلَيْهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُضَمَّنُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ. فَمَالِكٌ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ اعْتَمَدَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّه: «أَنَّ زِنْبَاعًا وَجَدَ غُلَامًا لَهُ مَعَ جَارِيَةٍ، فَقَطَعَ ذَكَرَهُ وَجَدَعَ أَنْفَهُ، فَأَتَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟
فَقَالَ: فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ»
. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ عِتْقُهُ» قَالُوا: فَلَمْ يَلْزَمِ الْعِتْقُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا نُدِبَ إِلَيْهِ. وَلَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ هُوَ أَنَّهُ لَا يُكْرِهُ السَّيِّدَ عَلَى عِتْقِ عَبْدِهِ إِلَّا مَا خَصَّصَهُ الدَّلِيلُ. وَأَحَادِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهَا، فَلَمْ تَبْلُغْ مِنَ الْقُوَّةِ أَنْ يُخَصَّصَ بِهَا مِثْلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.
وَأَمَّا هَلْ يَعْتِقُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَحَدٌ مِنْ قَرَابَتِهِ، وَإِنْ عَتَقَ فَمَنْ يَعْتِقُ؟
فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَى الرَّجُلِ بِالْقَرَابَةِ إِلَّا دَاوُدَ وَأَصْحَابَهُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا أَنْ يُعْتِقَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ قِبَلِ قُرْبَى. وَالَّذِينَ قَالُوا بِالْعِتْقِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يُعْتَقُ مِمَّنْ لَا يُعْتَقُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَى الرَّجُلِ أَبُوهُ وَوَلَدُهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَعْتِقُ عَلَى الرَّجُلِ ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: أُصُولُهُ (وَهُمُ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ وَالْأُمَّهَاتُ، وَآبَاؤُهُمْن وَأُمَّهَاتُهُمْ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ وِلَادَةٌ).
وَالثَّانِي: فُرُوعُهُ (وَهُمُ: الْأَبْنَاءُ وَالْبَنَاتُ وَوَلَدُهُمْ مَا سَفُلُوا، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ وَوَلَدُ الْبَنَاتِ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَنْ لِلرَّجُلِ عَلَيْهِ وِلَادَةٌ بِغَيْرِ تَوَسُّطٍ أَوْ بِتَوَسُّطِ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى).
وَالثَّالِثُ: الْفُرُوعُ الْمُشَارِكَةُ لَهُ فِي أَصْلِهِ الْقَرِيبِ (وَهُمُ: الْإِخْوَةُ، وَسَوَاءٌ كَانُوا لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ فَقَطْ، أَوْ لِأُمٍّ فَقَطْ، وَاقْتَصَرَ مِنْ هَذَا الْعَمُودِ عَلَى الْقَرِيبِ فَقَطْ، فَلَمْ يُوجِبْ عِتْقَ بَنِي الْإِخْوَةِ).
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْعَمُودَيْنِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ، وَخَالَفَهُ فِي الْإِخْوَةِ فَلَمْ يُوجِبْ عِتْقَهُمْ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَوْجَبَ عِتْقَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ بِالنَّسَبِ كَالْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ وَبَنَاتِ الْأَخِ، وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِمَّنْ هُوَ مِنَ الْإِنْسَانِ ذُو مَحْرَمٍ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِ أَهْلِ الظَّاهِرِ مَعَ الْجُمْهُورِ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمْ. فَقَالَ: الْجُمْهُورُ: يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَاهُ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ. وَقَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: الْمَفْهُومُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ وَلَا عِتْقُهُ إِذَا اشْتَرَاهُ، قَالُوا: لِأَنَّ إِضَافَةَ عِتْقِهِ إِلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مِلْكِهِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوا صَوَابًا، لَكَانَ اللَّفْظُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَ عَلَيْهِ. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ مَا رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ فَهُوَ حُرٌّ» وَكَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَاسَ مَالِكٌ الْإِخْوَةَ عَلَى الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ، وَلَمْ يُلْحِقْهُمْ بِهِمُ الشَّافِعِيُّ وَاعْتَمَدَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ فَقَطْ، وَقَاسَ الْأَبْنَاءَ عَلَى الْآبَاءِ. وَقَدْ رَامَتِ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ تَحْتَجَّ لِمَذْهَبِهَا بِأَنَّ الْبُنُوَّةَ صِفَةٌ هِيَ ضِدُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ تَجْتَمِعُ مَعَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} وَهَذِهِ الْعُبُودِيَّةُ هِيَ مَعْنًى غَيْرِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةَ مَعْقُولَةٌ وَبُنُوَّةٌ مَعْقُولَةٌ. وَالْعُبُودِيَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ وَالْمَوْلَايِيَّةِ هِيَ عُبُودِيَّةٌ بِالشَّرْعِ لَا بِالطَّبْعِ (أَعْنِي: بِالْوَضْعِ) لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ كَمَا يَقُولُونَ فِيهَا عِنْدَهُمْ، وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ. وَإِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبُنُوَّةَ تُسَاوِي الْأُبُوَّةَ فِي جِنْسِ الْوُجُودِ أَوْ فِي نَوْعِهِ (أَعْنِي: أَنَّ الْمَوْجُودَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبٌ وَالْآخَرُ ابْنٌ هُمَا مُتَقَارِبَانِ جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُمَا إِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ جِنْسٍ وَاحِدٍ)، وَمَا دُونَ اللَّهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَلَيْسَ يَجْتَمِعُ مَعَهُ سُبْحَانَهُ فِي جِنْسٍ قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ، بَلِ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا غَايَةُ التَّفَاوُتِ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي هَاهُنَا شَيْءٌ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ نِسْبَةُ الْأَبِ إِلَى الِابْنِ، بَلْ إِنْ كَانَ نِسْبَةُ الْمَوْجُودَاتِ إِلَيْهِ نِسْبَةَ الْعَبْدِ إِلَى السَّيِّدِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ مِنْ نِسْبَةِ الِابْنِ إِلَى الْأَبِ، لِأَنَّ التَّبَاعُدَ الَّذِي بَيْنَ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ فِي الْمَرْتَبَةِ أَشَدُّ مِنَ التَّبَاعُدِ الَّذِي بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ، وَعَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا شَبَهَ بَيْنَ النِّسْبَتَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْجُودَاتِ نِسْبَةٌ أَشَدُّ تَبَاعُدًا مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ (أَعْنِي: تَبَاعُدَ طَرَفَيْهِمَا فِي الشَّرَفِ وَالْخِسَّةِ) ضُرِبَ الْمِثَالُ بِهَا (أَعْنِي: نِسْبَةَ الْعَبْدِ لِلسَّيِّدِ)، وَمَنْ لَحَظَ الْمَحَبَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالرَّحْمَةَ وَالرَّأْفَةَ وَالشَّفَقَةَ أَجَازَ أَنْ يَقُولَ فِي النَّاسِ إِنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ عَلَى ظَاهِرِ شَرِيعَةِ عِيسَى. فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعِتْقِ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ فِي مَسْأَلَةٍ مَشْهُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالسَّمَاعِ.

.[حُكْمُ مَنْ أَعْتَقَ عَبِيدًا لَهُ فِي مَرَضِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا مَالَ لَهْ غَيْرُهُمْ]:

وَذَلِكَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَعْتَقَ عَبِيدًا لَهُ فِي مَرَضِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ. فَقَالَ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ: إِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمْ قُسِّمُوا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ وَعُتِقَ مِنْهُمْ جُزْءٌ بِالْقُرْعَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِمْ. وَخَالَفَ أَشْهَبُ وَأَصْبَغُ مَالِكًا فِي الْعِتْقِ الْمُبَتَّلِ فِي الْمَرَضِ، فَقَالَا جَمِيعًا: إِنَّمَا الْقُرْعَةُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْعِتْقِ الْمُبَتَّلِ فَهُوَ كَحُكْمِ الْمُدَبَّرِ. وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُدَبَّرِينَ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ إِذَا ضَاقَ عَنْهُمُ الثُّلُثُ أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ حَظِّهِ مِنَ الثُّلُثِ. وَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْعِتْقِ الْمُبَتَّلِ: إِذَا ضَاقَ عَنْهُ الثُّلُثُ أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُ ثُلُثُهُ. وَقَالَ الْغَيْرُ: بَلْ يُعْتَقُ مِنَ الْجَمِيعِ ثُلُثُهُ. فَقَوْمٌ مِنْ هَؤُلَاءِ اعْتَبَرُوا فِي ثُلُثِ الْجَمِيعِ الْقِيمَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَوْمٌ اعْتَبَرُوا الْعَدَدَ. فَعِنْدَ مَالِكٍ إِذَا كَانُوا سِتَّةَ أَعْبُدٍ مَثَلًا عُتِقَ مِنْهُمُ الثُّلُثُ بِالْقِيمَةِ كَانَ الْحَاصِلُ فِي ذَلِكَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ أَيْضًا بِالْقُرْعَةِ بَعْدَ أَنْ يُجْبَرُوا عَلَى الْقِسْمَةِ أَثْلَاثًا، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ الْمُعْتَبَرُ الْعَدَدُ، فَإِنْ كَانُوا سِتَّةً عُتِقَ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَإِنْ كَانُوا مَثَلًا سَبْعَةً عُتِقَ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَثُلُثٌ. فَعُمْدَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مُسْنَدًا، وَأَرْسَلَهُ مَالِكٌ. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ رَدِّ الْآثَارِ الَّتِي تَأْتِي بِطُرُقِ الْآحَادِ إِذَا خَالَفَتْهَا الْأُصُولُ الثَّابِتَةُ بِالتَّوَاتُرِ. وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ السَّيِّدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْعِتْقَ تَامًّا، فَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَنَفَذَ بِإِجْمَاعٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَجَبَ أَنْ يَنْفُذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ الثُّلُثِ الْجَائِزِ فَعَلَى السَّيِّدِ فِيهِ، وَهَذَا الْأَصْلُ لَيْسَ بَيِّنًا مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: إِنَّهُ إِذَا أُعْتِقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الثُّلُثُ دَخَلَ الضَّرَرُ عَلَى الْوَرَثَةِ وَالْعَبِيدِ الْمُعْتَقِينَ، وَقَدْ أَلْزَمَ الشَّرْعُ مُبَعِّضَ الْعِتْقِ أَنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنُ هَاهُنَا أَنْ يُتَمَّمَ عَلَيْهِ جَمْعٌ فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ لَكِنْ مَتَى اعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ فِي ذَلِكَ دُونَ الْعَدَدِ أَفْضَتْ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ الْعَدَدُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَكَانَ الْجُزْءُ الْمُعْتَقُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْمَعَ فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَصْلُهُ حَقُّ النَّاسِ.

.[مَنْ يَرِثُ مَالَ الْعَبْدِ إِذَا أُعْتِقَ؟

]:
وَاخْتَلَفُوا فِي مَالِ الْعَبْدِ إِذَا أُعْتِقَ لِمَنْ يَكُونُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَالُ لِلسَّيِّدِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَالُهُ تَبَعٌ لَهُ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَبِالثَّانِي قَالَ: ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ. وَالْحُجَّةُ لَهُمْ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ السَّيِّدُ مَالَهُ».

.[أَلْفَاظُ الْعِتْقِ]:

وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْعِتْقِ، فَإِنَّ مِنْهَا صَرِيحًا وَمِنْهَا كِنَايَةً عِنْدَ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. أَمَّا الْأَلْفَاظُ الصَّرِيحَةُ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ أَنْتَ عَتِيقٌ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْ هَذِهِ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُلْزِمُ السَّيِّدَ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهِيَ مِثْلُ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكَ، أَوْ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكَ، فَهَذِهِ يَنْوِي فِيهَا سَيِّدُ الْعَبْدِ، هَلْ أَرَادَ بِهِ الْعِتْقَ أَمْ لَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ؟
وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي هَذَا الْبَابِ إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: يَا بُنَيَّ، أَوْ لِأَمَتِهِ: يَا بِنْتِي، أَوْ قَالَ: يَا أَبِي، أَوْ يَا أُمِّي، فَقَالَ قَوْمٌ وَهُمُ الْجُمْهُورُ: لَا عِتْقَ يَلْزَمُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَشَذَّ زُفَرُ فَقَالَ: لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: هَذَا ابْنِي، عُتِقَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ عِشْرُونَ سَنَةً وَلِلسَّيِّدِ ثَلَاثُونَ سَنَةً. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: مَا أَنْتَ إِلَّا حُرٌّ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ حُرٌّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَنْ نَادَى عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ بِاسْمِهِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ عَبْدٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ الْأَوَّلَ، فَقِيلَ يُعْتَقَانِ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَقِيلَ يَنْوِي. وَاتُّفِقَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ فَهُوَ حُرٌّ دُونَ الْأُمِّ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَعْتَقَ أَمَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُمَا حُرَّانِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ الْعِتْقِ بِالْمَشِيئَةِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ كَالطَّلَاقِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: يُؤَثِّرُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَقَوْلِهِمْ فِي الطَّلَاقِ (أَعْنِي: قَوْلَ الْقَائِلِ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ). وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ بِشَرْطِ الْمِلْكِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَقَعُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يَقَعُ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». وَحُجَّةُ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ تَشْبِيهُهُمْ إِيَّاهُ بِالْيَمِينِ. وَأَلْفَاظُ هَذَا الْبَابِ شَبِيهَةٌ بِأَلْفَاظِ الطَّلَاقِ، وَشُرُوطُهُ كَشُرُوطِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَيْمَانُ فِيهِ شَبِيهَةٌ بِأَيْمَانِ الطَّلَاقِ.

.[أَحْكَامُ الْعِتْقِ]:

وَأَمَّا أَحْكَامُهُ فَكَثِيرَةٌ: مِنْهَا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْأَبْنَاءَ تَابِعُونَ فِي الْعِتْقِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلْأُمِّ، وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ عَرَبِيًّا. وَمِنْهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْعِتْقِ إِلَى أَجَلٍ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا إِنْ كَانَتْ جَارِيَةً وَلَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَهُ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْخِدْمَةِ عَلَى الْمُعْتَقِ مُدَّةً مَعْلُومَةً بَعْدَ الْعِتْقِ وَقَبْلَ الْعِتْقِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ، لِأَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ لَمْ يَمْلِكْ عِتْقَهُ، وَقَالَ: إِنْ بَاعَهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ (أَعْنِي: مِنْ مَالِ الْبَائِعِ إِذَا بَاعَهُ)، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ. وَفُرُوعُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

.كِتَابُ الْكِتَابَةِ:

وَالنَّظَرُ الْكُلِّيُّ فِي الْكِتَابَةِ يَنْحَصِرُ فِي أَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا.

.أَرْكَانُ الْكِتَابَةِ:

أَمَّا الْأَرْكَانُ فَثَلَاثَةٌ: الْعَقْدُ وَشُرُوطُهُ وَصِفَتُهُ، وَالْعَاقِدُ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَصِفَاتُهُمَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْمَسَائِلَ الْمَشْهُورَةَ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جِنْسٍ جِنْسٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ.
الْقَوْلُ فِي مَسَائِلِ الْعَقْدِ فَمِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْجِنْسِ الْمَشْهُورَةِ، اخْتِلَافُهُمْ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ؟
فَقَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هُوَ وَاجِبٌ، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنْ لَا يُجْبَرَ أَحَدٌ عَلَى عِتْقِ مَمْلُوكِهِ حَمَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى النَّدْبِ لِئَلَّا تَكُونُ مُعَارِضَةً لِهَذَا الْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ أَنْ يُحْكُمَ لَهُ عَلَى سَيِّدِهِ بِالْبَيْعِ لَهُ (وَهُوَ خُرُوجُ رَقَبَتِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِعِوَضٍ)، فَأَحْرَى أَنْ لَا يُحْكَمَ لَهُ عَلَيْهِ بِخُرُوجِهِ عَنْ غَيْرِ عِوَضٍ هُوَ مَالِكُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ هُوَ لِلسَّيِّدِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَقْرَبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَرْكَانِهِ. وَهَذَا الْعَقْدُ بِالْجُمْلَةِ هُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ يَكْتَسِبُهُ الْعَبْدُ. فَأَرْكَانُ هَذَا الْعَقْدِ الثَّمَنُ وَالْمَثْمُونُ، وَالْأَجَلُ، وَالْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ. فَأَمَّا الثَّمَنُ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا بِالْعِلْمِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِي الْبُيُوعِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ فِي لَفْظِهِ إِبْهَامٌ مَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ عَلَى جَارِيَةٍ أَوْ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِفَهُمَا وَيَكُونُ لَهُ الْوَسَطُ مِنَ الْعَبِيدِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَصِفَهُ. فَمَنِ اعْتَبَرَ فِي هَذَا طَلَبَ الْمُعَايِنَةِ شَبَّهَهُ بِالْبُيُوعِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مَقْصُودُهُ الْمُكَارَمَةُ وَعَدَمُ التَّشَاحِّ جَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْيَسِيرَ، كَحَالِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الصَّدَاقِ. وَمَالِكٌ يُجِيزُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ مِنْ جِنْسِ الرِّبَا مَا لَا يُجَوِّزُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالْأَجْنَبِيِّ مِنْ مِثْلِ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَفَسْخِ الدَّيْنِ فِي الدَّيْنِ، وَضَعْ وَتَعَجَّلْ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا. وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ رِبًا، لِأَنَّهُ وَمَالَهُ لَهُ، وَإِنَّمَا الْكِتَابَةُ سُنَّةٌ عَلَى حِدَتِهَا.
وَأَمَّا الْأَجَلُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَجَّلَةً، وَاخْتَلَفُوا فِي هَلْ تَجُوزُ حَالَّةً، وَذَلِكَ أَيْضًا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا تَجُوزُ حَالَّةً عَلَى مَالٍ مَوْجُودٍ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا قِطَاعَةً لَا كِتَابَةً.
وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَهِيَ الَّتِي يَشْتَرِي الْعَبْدُ فِيهَا مَالَهُ وَنَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ يَكْتَسِبُهُ. فَمَوْضِعُ الْخِلَافِ إِنَّمَا هُوَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ حَالٍّ لَيْسَ هُوَ بِيَدِهِ؟
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا الْكَلَامُ لَغْوٌ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ السَّيِّدَ شَيْءٌ مِنْهُ، وَقَالَ مُتَأَخِّرُوا أَصْحَابِ مَالِكٍ: قَدْ لَزِمَتِ الْكِتَابَةُ لِلسَّيِّدِ وَيَرْفَعُهُ الْعَبْدُ إِلَى الْحَاكِمِ فَيُنَجِّمُ عَلَيْهِ الْمَالَ بِحَسَبِ حَالِ الْعَبْدِ. وَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ السَّيِّدَ قَدْ أَوْجَبَ لِعَبْدِهِ الْكِتَابَةَ، إِلَّا أَنَّهُ اشْتَرَطَ فِيهَا شَرْطًا يَتَعَذَّرُ غَالِبًا، فَصَحَّ الْعَقْدُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ يَعُودُ بِبُطْلَانِ أَصْلِ الْعَقْدِ كَمَنْ بَاعَ جَارِيَتَهُ وَاشْتَرَطَ أَنْ لَا يَطَأَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَدَّى إِلَى عَجْزِهِ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَقْصُودِ الْكِتَابَةِ. وَحَاصِلُ قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ مِنْ أَرْكَانِهَا أَنْ تَكُونَ مُنَجَّمَةً، وَأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ فِيهَا ضِدَّ هَذَا الرُّكْنِ بَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّ الْعَقْدُ.

.الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: لَقَدْ كَاتَبْتُكَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِذَا أَدَّيْتَهَا فَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّهُ إِذَا أَدَّاهَا حُرٌّ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ لَهُ: قَدْ كَاتَبْتُكَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَسَكَتَ هَلْ يَكُونُ حُرًّا دُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: فَإِذَا أَدَّيْتَهَا فَأَنْتَ حُرٌّ؟
فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ حُرٌّ، لِأَنَّ اسْمَ الْكِتَابَةِ لَفْظٌ شَرْعِيٌّ، فَهُوَ يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَكُونُ حُرًّا حَتَّى يُصَرِّحَ بِلَفْظِ الْأَدَاءِ. وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمَالِكٍ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْكَ أَلْفُ دِينَارٍ، فَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ وَهُوَ حُرٌّ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ حُرٌّ وَلَا يَلْزَمُهُ.
وَأَمَّا إِنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَنَّ عَلَيْكَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ حُرٌّ وَالْمَالُ عَلَيْهِ كَغَرِيمٍ مِنَ الْغُرَمَاءِ، وَقِيلَ: الْعَبْدُ بِالْخِيَارِ، فَإِنِ اخْتَارَ الْحُرِّيَّةَ لَزِمَهُ الْمَالُ وَنَفَذَتِ الْحُرِّيَّةُ وَإِلَّا بَقِيَ عَبْدًا، وَقِيلَ: إِنْ قَبِلَ كَانَتْ كِتَابَةً يُعْتَقُ إِذَا أَدَّى، وَالْقَوْلَانِ لِابْنِ الْقَاسِمِ. وَتَجُوزُ الْكِتَابَةُ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى عَمَلٍ مَحْدُودٍ، وَتَجُوزُ عِنْدَهُ الْكِتَابَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَيُرَدُّ إِلَى أَنَّ كِتَابَةَ مِثْلِهِ كَالْحَالِ فِي النِّكَاحِ. وَتَجُوزُ الْكِتَابَةُ عِنْدَهُ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ (أَعْنِي: كِتَابَةَ مِثْلِهِ فِي الزَّمَانِ وَالثَّمَنِ)، وَمِنْ هُنَا قِيلَ إِنَّهُ تَجُوزُ عِنْدَهُ الْكِتَابَةُ الْحَالَّةُ. وَاخْتُلِفَ هَلْ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْعَقْدِ أَنْ يَضَعَ السَّيِّدُ مِنْ آخِرِ أَنْجُمِ الْكِتَابَةِ شَيْئًا عَنِ الْمُكَاتِبِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}؟
وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَأَى أَنَّ السَّادَةَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ نُدِبُوا لِعَوْنِ الْمُكَاتَبِينَ. وَالَّذِينَ رَأَوْا ذَلِكَ اخْتَلَفُوا هَلْ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ؟
وَالَّذِينَ قَالُوا بِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْءٍ، وَبَعْضُهُمْ حَدَّهُ.

.الْقَوْلُ فِي الْمُكَاتَبِ:

وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
إِحْدَاهَا: هَلْ تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُرَاهِقِ؟
وَهَلْ يُجْمَعُ فِي الْكِتَابَةِ الْوَاحِدَةِ أَكْثَرُ مَنْ عَبْدٍ وَاحِدٍ؟
وَهَلْ تَجُوزُ كِتَابَةُ مَنْ يَمْلِكُ فِي الْعَبْدِ بَعْضَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ؟
وَهَلْ تَجُوزُ كِتَابَةُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّعْيِ؟
وَهَلْ تَجُوزُ كِتَابَةُ مَنْ فِيهِ بَقِيَّةُ رِقٍّ؟
فَأَمَّا كِتَابَةُ الْمُرَاهِقِ الْقَوِيِّ عَلَى السَّعْيِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، فَأَجَازَهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنَعَهَا الشَّافِعِيُّ إِلَّا لِلْبَالِغِ، وَعَنْ مَالِكٍ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا. فَعُمْدَةُ مَنِ اشْتَرَطَ الْبُلُوغَ تَشْبِيهُهَا بِسَائِرِ الْعُقُودِ. وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْنَ الْأَجَانِبِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْقُوَّةُ عَلَى السَّعْيِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْبَالِغِ.
وَأَمَّا هَلْ يُجْمَعُ فِي الْكِتَابَةِ الْوَاحِدَةِ أَكْثَرُ مَنْ عَبْدٍ وَاحِدٍ؟
فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ إِذَا قُلْنَا بِالْجَمْعِ فَهَلْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ حُمَلَاءَ عَنْ بَعْضٍ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ حَتَّى لَا يُعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِعِتْقِ جَمِيعِهِمْ؟
فِيهِ أَيْضًا خِلَافٌ. فَأَمَّا هَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ؟
فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَمَنَعَهُ قَوْمٌ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا هَلْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ حُمَلَاءَ عَنْ بَعْضٍ؟
فَإِنَّ فِيهِ لِمَنْ أَجَازَ الْجَمْعَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ وَاجِبٌ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، أَعْنِي حَمَالَةَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَبِهِ قَالَ: مَالِكٌ وَسُفْيَانُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَيَلْزَمُ بِالشَّرْطِ، وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَا بِالشَّرْطِ وَلَا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَيُعْتَقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذَا أَدَّى قَدْرَ حِصَّتِهِ. فَعُمْدَةُ مَنْ مَنَعَ الشَّرِكَةِ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ، لِأَنَّ قَدْرَ مَا يَلْزَمُ وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ مَجْهُولٌ. وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَهُ أَنَّ الْغَرَرَ الْيَسِيرَ يُسْتَخَفُّ فِي الْكِتَابَةِ، لِأَنَّهُ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ، وَالْعَبْدُ وَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَحُجَّتُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْكِتَابَةُ وَاحِدَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ حَمَالَةَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمَالَةِ الْأَجْنَبِيِّينَ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ حَمَالَةَ الْأَجْنَبِيِّينَ فِي الْكِتَابَةِ لَا تَجُوزُ قَالَ: لَا تَجُوزُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا مَنَعُوا حَمَالَةَ الْكِتَابَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا عَجَزَ الْمُكَاتِبُ لَمْ يَكُنْ لِلْحَمِيلِ شَيْءٌ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَأَنَّهُ لَيْسَ يَظْهَرُ فِي حَمَالَةِ الْعَبِيدِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ هُوَ سَبَبٌ لِأَنْ يُعْجِزَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى السَّعْيِ بِعَجْزِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَهُوَ غَرَرٌ خَاصٌّ بِالْكِتَابَةِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَيْضًا إِنَّ الْجَمْعَ يَكُونُ سَبَبًا لِأَنْ يُخْرِجَ حُرًّا مَنْ لَا يَقْدِرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَسْعَى حَتَّى يَخْرُجَ حُرًّا فَهُوَ كَمَا يَعُودُ بِرِقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى السَّعْيِ، كَذَلِكَ يَعُودُ بِحُرِّيَّةِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّعْيِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَشَبَّهَهَا بِحَمَالَةِ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الْحَمَالَةُ فَأَلْزَمَهَا بِالشَّرْطِ وَلَمْ يُلْزِمْهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَهُوَ مَعَ هَذَا أَيْضًا لَا يُجِيزُ حَمَالَةَ الْكِتَابَةِ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا هَلْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُكَاتِبَ نَصِيبَهُ دُونَ إِذْنِ صَاحِبِهِ؟
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَالْكِتَابَةُ مَفْسُوخَةٌ، وَمَا قَبَضَ مِنْهَا هِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَ الرَّجُلُ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدِهِ دُونَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَفَرَّقَتْ فِرْقَةٌ، فَقَالَتْ: يَجُوزُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ، وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ، وَبِالثَّانِي قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ، وَبِالثَّالِثِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَأَدَّى إِلَى أَنْ يُعْتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ بِالتَّقْوِيمِ عَلَى الَّذِي كَاتَبَ حَظَّهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي تَبْعِيضِ الْعِتْقِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ رَأَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ عِتْقَهُ إِذَا أَدَّى الْكِتَابَةَ إِذَا كَانَ مُوسِرًا. فَاحْتِجَاجُ مَالِكٍ هُنَا هُوَ احْتِجَاجٌ بِأَصْلٍ لَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْخَصْمُ، لَكِنْ لَيْسَ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْأَصْلِ أَنْ لَا يُوَافِقَهُ عَلَيْهِ الْخَصْمُ.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْإِذْنِ فَضَعِيفٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى فِي كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الْمَالِ لِلْمُكَاتِبِ إِذَا كَانَتِ الْكِتَابَةُ عَنْ إِذْنِ شَرِيكِهِ أَنَّ كُلَّ مَا أَدَّى لِلشَّرِيكِ الَّذِي كَاتَبَهُ يَأْخُذُ مِنْهُ الشَّرِيكُ الثَّانِي نَصِيبَهُ، وَيَرْجِعُ بِالْبَاقِي عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْعَى لَهُ فِيهِ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ مَا كَانَ كَاتَبَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ عَنِ الْأُصُولِ.
وَأَمَّا هَلْ تَجُوزُ مُكَاتَبَةُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّعْيِ فَلَا خِلَافَ فِيمَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ أَنَّ شَرْطَ الْمُكَاتَبِ أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى السَّعْيِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مَا الْخَيْرُ الَّذِي اشْتَرَطَهُ اللَّهُ فِي الْمُكَاتَبِينَ فِي قَوْلِه: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الِاكْتِسَابُ وَالْأَمَانَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمَالُ وَالْأَمَانَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الصَّلَاحُ وَالدِّينُ. وَأَنْكَرُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُكَاتَبَ مَنْ لَا حِرْفَةَ لَهُ مَخَافَةَ السُّؤَالِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ: «أَنَّهَا كُوتِبَتْ أَنْ تَسْأَلَ النَّاسَ» وَكَرِهَ أَنْ تُكَاتَبَ الْأَمَةُ الَّتِي لَا اكْتِسَابَ لَهَا بِصِنَاعَةٍ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى الزِّنَا.